الكومانده ُ{،ٌصاحب شارع مصرًًُ]ًٍَُ كبير الفتيوات
عدد الردود : 149 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 11/10/2010 عمرك كام : 38
| موضوع: إبراهيم عليه السلام منتدى شارع مصر الخميس نوفمبر 25, 2010 4:40 pm | |
| نبذة:
هو خليل الله، اصطفاه الله برسالته وفضله على كثير من خلقه، كان إبراهيميعيش في قوم يعبدون الكواكب، فلم يكن يرضيه ذلك، وأحس بفطرته أن هناك إلهاأعظم حتى هداه الله واصطفاه برسالته، وأخذ إبراهيم يدعو قومه لوحدانيةالله وعبادته ولكنهم كذبوه وحاولوا إحراقه فأنجاه الله من بين أيديهم، جعلالله الأنبياء من نسل إبراهيم فولد له إسماعيل وإسحاق، قام إبراهيم ببناءالكعبة مع إسماعيل.
سيرته:
منزلة إبراهيم عليه السلام:
هو أحد أولي العزم الخمسة الكبار الذين اخذ الله منهم ميثاقا غليظا، وهم:نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.. بترتيب بعثهم. وهو النبي الذي ابتلاهالله ببلاء مبين. بلاء فوق قدرة البشر وطاقة الأعصاب. ورغم حدة الشدة،وعنت البلاء.. كان إبراهيم هو العبد الذي وفى. وزاد على الوفاء بالإحسان.
وقد كرم الله تبارك وتعالى إبراهيم تكريما خاصا، فجعل ملته هي التوحيدالخالص النقي من الشوائب. وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه.
وكان من فضل الله على إبراهيم أن جعله الله إماما للناس. وجعل في ذريتهالنبوة والكتاب. فكل الأنبياء من بعد إبراهيم هم من نسله فهم أولادهوأحفاده. حتى إذا جاء آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، جاء تحقيقاواستجابة لدعوة إبراهيم التي دعا الله فيها أن يبعث في الأميين رسولا منهم.
ولو مضينا نبحث في فضل إبراهيم وتكريم الله له فسوف نمتلئ بالدهشة. نحنأمام بشر جاء ربه بقلب سليم. إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قالأسلمت لرب العالمين. نبي هو أول من سمانا المسلمين. نبي كان جدا وأبا لكلأنبياء الله الذين جاءوا بعده. نبي هادئ متسامح حليم أواه منيب.
يذكر لنا ربنا ذو الجلال والإكرام أمرا آخر أفضل من كل ما سبق. فيقول اللهعز وجل في محكم آياته: (وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) لم يردفي كتاب الله ذكر لنبي، اتخذه الله خليلا غير إبراهيم. قال العلماء:الخُلَّة هي شدة المحبة. وبذلك تعني الآية: واتخذ الله إبراهيم حبيبا. فوقهذه القمة الشامخة يجلس إبراهيم عليه الصلاة والسلام. إن منتهى أملالسالكين، وغاية هدف المحققين والعارفين بالله.. أن يحبوا الله عز وجل.أما أن يحلم أحدهم أن يحبه الله، أن يفرده بالحب، أن يختصه بالخُلَّة وهيشدة المحبة.. فذلك شيء وراء آفاق التصور. كان إبراهيم هو هذا العبدالرباني الذي استحق أن يتخذه الله خليلا.
حال المشركين قبل بعثة إبراهيم:
لا يتحدث القرآن عن ميلاده أو طفولته، ولا يتوقف عند عصره صراحة، ولكنهيرسم صورة لجو الحياة في أيامه، فتدب الحياة في عصره، وترى الناس قدانقسموا ثلاث فئات:
فئة تعبد الأصنام والتماثيل الخشبية والحجرية.
وفئة تعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر.
وفئة تعبد الملوك والحكام.
نشأة إبراهيم عليه السلام:
وفي هذا الجو ولد إبراهيم. ولد في أسرة من أسر ذلك الزمان البعيد. لم يكنرب الأسرة كافرا عاديا من عبدة الأصنام، كان كافرا متميزا يصنع بيديهتماثيل الآلهة. وقيل أن أباه مات قبل ولادته فرباه عمه، وكان له بمثابةالأب، وكان إبراهيم يدعوه بلفظ الأبوة، وقيل أن أباه لم يمت وكان آزر هووالده حقا، وقيل أن آزر اسم صنم اشتهر أبوه بصناعته.. ومهما يكن من أمرفقد ولد إبراهيم في هذه الأسرة.
رب الأسرة أعظم نحات يصنع تماثيل الآلهة. ومهنة الأب تضفي عليه قداسة خاصةفي قومه، وتجعل لأسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع. هي أسرة مرموقة،أسرة من الصفوة الحاكمة.
من هذه الأسرة المقدسة، ولد طفل قدر له أن يقف ضد أسرته وضد نظام مجتمعهوضد أوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوموالكواكب وضد كل أنواع الشرك باختصار.
مرت الأيام.. وكبر إبراهيم.. كان قلبه يمتلأ من طفولته بكراهية صادقة لهذهالتماثيل التي يصنعها والده. لم يكن يفهم كيف يمكن لإنسان عاقل أن يصنعبيديه تمثالا، ثم يسجد بعد ذلك لما صنع بيديه. لاحظ إبراهيم إن هذهالتماثيل لا تشرب ولا تأكل ولا تتكلم ولا تستطيع أن تعتدل لو قلبها أحدعلى جنبها. كيف يتصور الناس أن هذه التماثيل تضر وتنفع؟!
مواجهة عبدة الكواكب والنجوم:
قرر إبراهيم عليه السلام مواجهة عبدة النجوم من قومه، فأعلن عندما رأى أحدالكواكب في الليل، أن هذا الكوكب ربه. ويبدو أن قومه اطمأنوا له، وحسبواأنه يرفض عبادة التماثيل ويهوى عبادة الكواكب. وكانت الملاحة حرة بينالوثنيات الثلاث: عبادة التماثيل والنجوم والملوك. غير أن إبراهيم كانيدخر لقومه مفاجأة مذهلة في الصباح. لقد أفل الكوكب الذي التحق بديانتهبالأمس. وإبراهيم لا يحب الآفلين. فعاد إبراهيم في الليلة الثانية يعلنلقومه أن القمر ربه. لم يكن قومه على درجة كافية من الذكاء ليدركوا أنهيسخر منهم برفق ولطف وحب. كيف يعبدون ربا يختفي ثم يظهر. يأفل ثم يشرق. لميفهم قومه هذا في المرة الأولى فكرره مع القمر. لكن القمر كالزهرة كأيكوكب آخر.. يظهر ويختفي. فقال إبراهيم عدما أفل القمر (لَئِن لَّمْيَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) نلاحظ هنا أنهعندما يحدث قومه عن رفضه لألوهية القمر.. فإنه يمزق العقيدة القمرية بهدوءولطف. كيف يعبد الناس ربا يختفي ويأفل. (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي)يفهمهم أن له ربا غير كل ما يعبدون. غير أن اللفتة لا تصل إليهم. ويعاودإبراهيم محاولته في إقامة الحجة على الفئة الأولى من قومه.. عبدة الكواكبوالنجوم. فيعلن أن الشمس ربه، لأنها أكبر من القمر. وما أن غابت الشمس،حتى أعلن براءته من عبادة النجوم والكواكب. فكلها مغلوقات تأفل. وأنهىجولته الأولى بتوجيهه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا.. ليس مشركامثلهم.
استطاعت حجة إبراهيم أن تظهر الحق. وبدأ صراع قومه معه. لم يسكت عنه عبدةالنجوم والكواكب. بدءوا جدالهم وتخويفهم له وتهديده. ورد إبراهيم عليهمقال:
أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَبِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍعِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْوَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِعَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنكُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) (الأنعام)
لا نعرف رهبة الهجوم عليه. ولا حدة الصراع ضده، ولا أسلوب قومه الذي اتبعهمعه لتخويفه. تجاوز القرآن هذا كله إلى رده هو. كان جدالهم باطلا فأسقطهالقرآن من القصة، وذكر رد إبراهيم المنطقي العاقل. كيف يخوفونه ولا يخافونهم؟ أي الفريقين أحق بالأمن؟
بعد أن بين إبراهيم عليه السلام حجته لفئة عبدة النجوم والكواكب، استعدلتبيين حجته لعبدة الأصنام. آتاه الله الحجة في المرة الأولى كما سيؤتيهالحجة في كل مرة.
سبحانه.. كان يؤيد إبراهيم ويريه ملكوت السماوات والأرض. لم يكن معه غيرإسلامه حين بدأ صراعه مع عبدة الأصنام. هذه المرة يأخذ الصراع شكلا أعظمحدة. أبوه في الموضوع.. هذه مهنة الأب وسر مكانته وموضع تصديق القوم.. وهيالعبادة التي تتبعها الأغلبية.
مواجهة عبدة الأصنام:
خرج إبراهيم على قومه بدعوته. قال بحسم غاضب وغيرة على الحق:
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِيأَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَاعَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍمُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَاللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِالَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56)(الأنبياء)
انتهى الأمر وبدأ الصراع بين إبراهيم وقومه.. كان أشدهم ذهولا وغضبا هوأباه أو عمه الذي رباه كأب.. واشتبك الأب والابن في الصراع. فصلت بينهماالمبادئ فاختلفا.. الابن يقف مع الله، والأب يقف مع الباطل.
قال الأب لابنه: مصيبتي فيك كبيرة يا إبراهيم.. لقد خذلتني وأسأت إلي.
قال إبراهيم:
يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِيعَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَالَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِعَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَالرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) (مريم)
انتفض الأب واقفا وهو يرتعش من الغضب. قال لإبراهيم وهو ثائر إذا لم تتوقفعن دعوتك هذه فسوف أرجمك، سأقتلك ضربا بالحجارة. هذا جزاء من يقف ضدالآلهة.. اخرج من بيتي.. لا أريد أن أراك.. اخرج.
انتهى الأمر وأسفر الصراع عن طرد إبراهيم من بيته. كما أسفر عن تهديدهبالقتل رميا بالحجارة. رغم ذلك تصرف إبراهيم كابن بار ونبي كريم. خاطبأباه بأدب الأنبياء. قال لأبيه ردا على الإهانات والتجريح والطرد والتهديدبالقتل:
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِيحَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِوَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48)(مريم)
وخرج إبراهيم من بيت أبيه. هجر قومه وما يعبدون من دون الله. وقرر في نفسهأمرا. كان يعرف أن هناك احتفالا عظيما يقام على الضفة الأخرى من النهر،وينصرف الناس جميعا إليه. وانتظر حتى جاء الاحتفال وخلت المدينة التي يعيشفيها من الناس.
وخرج إبراهيم حذرا وهو يقصد بخطاه المعبد. كانت الشوارع المؤدية إلىالمعبد خالية. وكان المعبد نفسه مهجورا. انتقل كل الناس إلى الاحتفال. دخلإبراهيم المعبد ومعه فأس حادة. نظر إلى تماثيل الآلهة المنحوتة من الصخروالخشب. نظر إلى الطعام الذي وضعه الناس أمامها كنذور وهدايا. اقتربإبراهيم من التماثيل وسألهم: (أَلَا تَأْكُلُونَ) كان يسخر منهم ويعرفأنهم لا يأكلون. وعاد يسأل التماثيل: (مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ) ثم هوىبفأسه على الآلهة.
وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة.. إلاكبير الأصنام فقد تركه إبراهيم (لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِيَرْجِعُونَ) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغارالآلهة! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها، فيرجعون إلى صوابهم.
إلا أن قوم إبراهيم الذين عطّلت الخرافة عقولهم عن التفكير، وغلّ التقليدأفكارهم عن التأمل والتدبر. لم يسألوا أنفسهم: إن كانت هذه آلهة فكيف وقعلها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا؟! وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟!وبدلا من ذلك (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَالظَّالِمِينَ).
عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة التماثيل، ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها!
فأحضروا إبراهيم عليه السلام، وتجمّع الناس، وسألوه (أَأَنتَ فَعَلْتَهَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ)؟ فأجابهم إبراهيم (بَلْ فَعَلَهُكَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) والتهكم واضحفي هذا الجواب الساخر. فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم -عليه السلام-والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون. فالأمر أيسر منهذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم: إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إنكنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا. فهي جماد لا إدراكله أصلا. وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائزوالمستحيل. فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم أن هذا التمثال هو الذيحطمها!
ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا، وردهم إلى شيء من التدبر التفكر:
فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) (الأنبياء)
وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذهالتماثيل من ظلم. وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذييأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون. ولكنها لم تكن إلا ومضةواحدة أعقبها الظلام، وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود:
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ (65) (الأنبياء)
وحقا كانت الأولى رجعة إلى النفوس، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس؛ كمايقول التعبير القرآني المصور العجيب.. كانت الأولى حركة في النفس للنظروالتدبر. أما الثانية فكانت انقلابا على الرأس فلا عقل ولا تفكير. وإلافإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم. وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاءلا ينطقون؟
ومن ثم يجيبهم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم. لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم:
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًاوَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِاللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) (الأنبياء)
وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدرن وغيظ النفس، والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف.
عند ذلك أخذتهم العزة بالإثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل، فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ:
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) (الأنبياء)
نجاة إبراهيم عليه السلام من النار:
وفعلا.. بدأ الاستعداد لإحراق إبراهيم. انتشر النبأ في المملكة كلها. وجاءالناس من القرى والجبال والمدن ليشهدوا عقاب الذي تجرأ على الآلهة وحطمهاواعترف بذلك وسخر من الكهنة. وحفروا حفرة عظيمة ملئوها بالحطب والخشبوالأشجار. وأشعلوا فيها النار. وأحضروا المنجنيق وهو آلة جبارة ليقذفواإبراهيم فيها فيسقط في حفرة النار.. ووضعوا إبراهيم بعد أن قيدوا يديهوقدميه في المنجنيق. واشتعلت النار في الحفرة وتصاعد اللهب إلى السماء.وكان الناس يقفون بعيدا عن الحفرة من فرط الحرارة اللاهبة. وأصدر كبيرالكهنة أمره بإطلاق إبراهيم في النار.
جاء جبريل عليه السلام ووقف عند رأس إبراهيم وسأله: يا إبراهيم.. ألك حاجة؟
قال إبراهيم: أما إليك فلا.
انطلق المنجنيق ملقيا إبراهيم في حفرة النار. كانت النار موجودة فيمكانها، ولكنها لم تكن تمارس وظيفتها في الإحراق. فقد أصدر الله جل جلالهإلى النار أمره بأن تكون (بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ). أحرقتالنار قيوده فقط. وجلس إبراهيم وسطها كأنه يجلس وسط حديقة. كان يسبّح بحمدربه ويمجّده. لم يكن في قلبه مكان خال يمكن أن يمتلئ بالخوف أو الرهبة أوالجزع. كان القلب مليئا بالحب وحده. ومات الخوف. وتلاشت الرهبة. واستحالتالنار إلى سلام بارد يلطف عنه حرارة الجو.
جلس الكهنة والناس يرقبون النار من بعيد. كانت حرارتها تصل إليهم علىالرغم من بعدهم عنها. وظلت النار تشتعل فترة طويلة حتى ظن الكافرون أنهالن تنطفئ أبدا. فلما انطفأت فوجئوا بإبراهيم يخرج من الحفرة سليما كمادخل. ووجهه يتلألأ بالنور والجلال. وثيابه كما هي لم تحترق. وليس عليه أيأثر للدخان أو الحريق.
خرج إبراهيم من النار كما لو كان يخرج من حديقة. وتصاعدت صيحات الدهشة الكافرة. خسروا جولتهم خسارة مريرة وساخرة.
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) (الأنبياء)
لا يحدثنا القرآن الكريم عن عمر إبراهيم حين حطم أصنام قومه، لا يحدثنا عنالسن التي كلف فيها بالدعوة إلى الله. ويبدو من استقراء النصوص القديمة أنإبراهيم كان شابا صغيرا حين فعل ذلك، بدليل قول قومه عنه: (سَمِعْنَافَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ). وكلمة الفتى تطلق علىالسن التي تسبق العشرين.
مواجهة عبدة الملوك:
إن زمن اصطفاء الله تعالى لإبراهيم غير محدد في القرآن. وبالتالي فنحن لانستطيع أن نقطع فيه بجواب نهائي. كل ما نستطيع أن نقطع فيه برأي، أنإبراهيم أقام الحجة على عبدة التماثيل بشكل قاطع، كما أقامها على عبدةالنجوم والكواكب من قبل بشكل حاسم، ولم يبق إلا أن تقام الحجة على الملوكالمتألهين وعبادهم.. وبذلك تقوم الحجة على جميع الكافرين.
فذهب إبراهيم عليه السلام لملك متألّه كان في زمانه. وتجاوز القرآن اسمالملك لانعدام أهميته، لكن روي أن الملك المعاصر لإبراهيم كان يلقب(بالنمرود) وهو ملك الآراميين بالعراق. كما تجاوز حقيقة مشاعره، كما تجاوزالحوار الطويل الذي دار بين إبراهيم وبينه. لكن الله تعالى في كتابهالحكيم أخبرنا الحجة الأولى التي أقامها إبراهيم عليه السلام على الملكالطاغية، فقال إبراهيم بهدوء: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)
قال الملك: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أستطيع أن أحضر رجلا يسير في الشارعوأقتله، وأستطيع أن أعفو عن محكوم عليه بالإعدام وأنجيه من الموت.. وبذلكأكون قادرا على الحياة والموت.
لم يجادل إبراهيم الملك لسذاجة ما يقول. غير أنه أراد أن يثبت للملك أنهيتوهم في نفسه القدرة وهو في الحقيقة ليس قادرا. فقال إبراهيم: (فَإِنَّاللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَالْمَغْرِبِ)
استمع الملك إلى تحدي إبراهيم صامتا.. فلما انتهى كلام النبي بهت الملك.أحس بالعجز ولم يستطع أن يجيب. لقد أثبت له إبراهيم أنه كاذب.. قال له إنالله يأتي بالشمس من المشرق، فهل يستطيع هو أن يأتي بها من المغرب.. إنللكون نظما وقوانين يمشي طبقا لها.. قوانين خلقها الله ولا يستطيع أيمخلوق أن يتحكم فيها. ولو كان الملك صادقا في ادعائه الألوهية فليغير نظامالكون وقوانينه.. ساعتها أحس الملك بالعجز.. وأخرسه التحدي. ولم يعرف ماذايقول، ولا كيف يتصرف. انصرف إبراهيم من قصر الملك، بعد أن بهت الذي كفر.
هجرة إبراهيم عليه السلام:
انطلقت شهرة إبراهيم في المملكة كلها. تحدث الناس عن معجزته ونجاته منالنار، وتحدث الناس عن موقفه مع الملك وكيف أخرس الملك فلم يعرف ماذايقول. واستمر إبراهيم في دعوته لله تعالى. بذل جهده ليهدي قومه، حاولإقناعهم بكل الوسائل، ورغم حبه لهم وحرصه عليهم فقد غضب قومه وهجروه، ولميؤمن معه من قومه سوى امرأة ورجل واحد. امرأة تسمى سارة، وقد صارت فيمابعد زوجته، ورجل هو لوط، وقد صار نبيا فيما بعد. وحين أدرك إبراهيم أنأحدا لن يؤمن بدعوته. قرر الهجرة.
قبل أن يهاجر، دعا والده للإيمان، ثم تبين لإبراهيم أن والده عدو لله، وأنه لا ينوي الإيمان، فتبرأ منه وقطع علاقته به.
للمرة الثانية في قصص الأنبياء نصادف هذه المفاجأة. في قصة نوح كان الأبنبيا والابن كافرا، وفي قصة إبراهيم كان الأب كافرا والابن نبيا، وفيالقصتين نرى المؤمن يعلن براءته من عدو الله رغم كونه ابنه أو والده، وكأنالله يفهمنا من خلال القصة أن العلاقة الوحيدة التي ينبغي أن تقوم عليهاالروابط بين الناس، هي علاقة الإيمان لا علاقة الميلاد والدم.
خرج إبراهيم عليه السلام من بلده وبدأ هجرته. سافر إلى مدينة تدعى أور.ومدينة تسمى حاران. ثم رحل إلى فلسطين ومعه زوجته، المرأة الوحيدة التيآمنت به. وصحب معه لوطا.. الرجل الوحيد الذي آمن به.
بعد فلسطين ذهب إبراهيم إلى مصر. وطوال هذا الوقت وخلال هذه الرحلات كلها،كان يدعو الناس إلى عبادة الله، ويحارب في سبيله، ويخدم الضعفاء والفقراء،ويعدل بين الناس، ويهديهم إلى الحقيقة والحق.
وتأتي بعض الروايات لتبين قصة إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة وموقفهما مع ملك مصر. فتقول:
وصلت الأخبار لملك مصر بوصول رجل لمصر معه أمرأة هي أجمل نساء الأرض. فطمعبها. وأرسل جنوده ليأتونه بهذه المرأة. وأمرهم بأن يسألوا عن الرجل الذيمعها، فإن كان زوجها فليقتلوه. فجاء الوحي لإبراهيم عليه السلام بذلك.فقال إبراهيم -عليه السلام- لسارة إن سألوك عني فأنت أختي -أي أخته فيالله-، وقال لها ما على هذه الأرض مؤمن غيري وغيرك -فكل أهل مصر كفرة، ليسفيها موحد لله عز وجل. فجاء الجنود وسألوا إبراهيم: ما تكون هذه منك؟ قال:أختي.
لنقف هنا قليلا.. قال إبراهيم حينما قال لقومه (إني سقيم) و (بل فعلهكبيرهم هذا فاسألوه) و (هي أختي). كلها كلمات تحتمل التاويل. لكن مع هذاكان إبراهيم عليه السلام خائفا جدا من حسابه على هذه الكلمات يوم القايمة.فعندما يذهب البشر له يوقم القيامة ليدعوا الله أن يبدأ الحساب يقول لهملا إني كذب على ربي ثلاث مرات.
ونجد أن البشر الآن يكذبون أمام الناس من غير استحياء ولا خوف من خالقهم.
لما عرفت سارة أن ملك مصر فاجر ويريدها له أخذت تدعوا الله قائلة: اللهمإن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط عليالكافر.
فلما أدخلوها عليه. مد يده إليها ليلمسها فشلّ وتجمدت يده في مكانها، فبدأبالصراخ لأنه لم يعد يستطيع تحريكها، وجاء أعوانه لمساعدته لكنهم لميستطيعوا فعل شيء. فخافت سارة على نفسها أن يقتلوها بسبب ما فعلته بالملك.فقالت: يا رب اتركه لا يقتلوني به. فاستجاب الله لدعائها.
لكن الملك لم يتب وظن أن ما حدث كان أمرا عابرا وذهب. فهجم عليها مرةأخرى. فشلّ مرة ثانية. فقال: فكيني. فدعت الله تعالى فَفَكّه. فمد يدهثالثة فشلّ. فقال: فكيني وأطلقك وأكرمك. فدعت الله سبحانه وتعالى فَفُك.فصرخ الملك بأعوانه: أبعدوها عني فإنكم لم تأتوني بإنسان بل أتيتمونيبشيطان.
فأطلقها وأعطاها شيئا من الذهب، كما أعطاها أَمَةً اسمها "هاجر".
هذه الرواية مشهورة عن دخول إبراهيم -عليه السلام- لمصر.
وكانت زوجته سارة لا تلد. وكان ملك مصر قد أهداها سيدة مصرية لتكون فيخدمتها، وكان إبراهيم قد صار شيخا، وابيض شعره من خلال عمر أبيض أنفقه فيالدعوة إلى الله، وفكرت سارة إنها وإبراهيم وحيدان، وهي لا تنجب أولادا،ماذا لو قدمت له السيدة المصرية لتكون زوجة لزوجها؟ وكان اسم المصرية"هاجر". وهكذا زوجت سارة سيدنا إبراهيم من هاجر، وولدت هاجر ابنها الأولفأطلق والده عليه اسم "إسماعيل". كان إبراهيم شيخا حين ولدت له هاجر أولأبنائه إسماعيل.
ولسنا نعرف أبعاد المسافات التي قطعها إبراهيم في رحلته إلى الله. كاندائما هو المسافر إلى الله. سواء استقر به المقام في بيته أو حملته خطواتهسائحا في الأرض. مسافر إلى الله يعلم إنها أيام على الأرض وبعدها يجيءالموت ثم ينفخ في الصور وتقوم قيامة الأموات ويقع البعث. إحياء الموتى:
ملأ اليوم الآخر قلب إبراهيم بالسلام والحب واليقين. وأراد أن يرى يوماكيف يحيي الله عز وجل الموتى. حكى الله هذا الموقف في سورة (البقرة).. قالتعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَأَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
لا تكون هذه الرغبة في طمأنينة القلب مع الإيمان إلا درجة من درجات الحب لله.
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّيَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
فعل إبراهيم ما أمره به الله. ذبح أربعة من الطير وفرق أجزاءها علىالجبال. ودعاها باسم الله فنهض الريش يلحق بجناحه، وبحثت الصدور عنرؤوسها، وتطايرت أجزاء الطير مندفعة نحو الالتحام، والتقت الضلوع بالقلوب،وسارعت الأجزاء الذبيحة للالتئام، ودبت الحياة في الطير، وجاءت طائرةمسرعة ترمي بنفسها في أحضان إبراهيم. اعتقد بعض المفسرين إن هذه التجربةكانت حب استطلاع من إبراهيم. واعتقد بعضهم أنه أراد أن يرى يد ذي الجلالالخالق وهي تعمل، فلم ير الأسلوب وإن رأى النتيجة. واعتقد بعض المفسرينأنه اكتفى بما قاله له الله ولم يذبح الطير. ونعتقد أن هذه التجربة كانتدرجة من درجات الحب قطعها المسافر إلى الله. إبراهيم.
رحلة إبراهيم مع هاجر وإسماعيل لوادي مكة:
استيقظ إبراهيم يوما فأمر زوجته هاجر أن تحمل ابنها وتستعد لرحلة طويلة.وبعد أيام بدأت رحلة إبراهيم مع زوجته هاجر ومعهما ابنهما إسماعيل. وكانالطفل رضيعا لم يفطم بعد. وظل إبراهيم يسير وسط أرض مزروعة تأتي بعدهاصحراء تجيء بعدها جبال. حتى دخل إلى صحراء الجزيرة العربية، وقصد إبراهيمواديا ليس فيه زرع ولا ثمر ولا شجر ولا طعام ولا مياه ولا شراب. كانالوادي يخلو تماما من علامات الحياة. وصل إبراهيم إلى الوادي، وهبط من فوقظهر دابته. وأنزل زوجته وابنه وتركهما هناك، ترك معهما جرابا فيه بعضالطعام، وقليلا من الماء. ثم استدار وتركهما وسار.
أسرعت خلفه زوجته وهي تقول له: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه شيء؟
لم يرد عليها سيدنا إبراهيم. ظل يسير. عادت تقول له ما قالته وهو صامت.أخيرا فهمت أنه لا يتصرف هكذا من نفسه. أدركت أن الله أمره بذلك وسألته:هل الله أمرك بهذا؟ قال إبراهيم عليه السلام: نعم.
قالت زوجته المؤمنة العظيمة: لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذي أمركبهذا. وسار إبراهيم حتى إذا أخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين إلىالسماء وراح يدعو الله: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِيبِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ).
لم يكن بيت الله قد أعيد بناؤه بعد، لم تكن الكعبة قد بنيت، وكانت هناكحكمة عليا في هذه التصرفات الغامضة، فقد كان إسماعيل الطفل الذي ترك معأمه في هذا المكان، كان هذا الطفل هو الذي سيصير مسؤولا مع والده عن بناءالكعبة فيما بعد. وكانت حكمة الله تقضي أن يمتد العمران إلى هذا الوادي،وأن يقام فيه بيت الله الذي نتجه جميعا إليه أثناء الصلاة بوجوهنا.
ترك إبراهيم زوجته وابنه الرضيع في الصحراء وعاد راجعا إلى كفاحه في دعوةالله. أرضعت أم إسماعيل ابنها وأحست بالعطش. كانت الشمس ملتهبة وساخنةوتثير الإحساس بالعطش. بعد يومين انتهى الماء تماما، وجف لبن الأم. وأحستهاجر وإسماعيل بالعطش.. كان الطعام قد انتهى هو الآخر. وبدا الموقف صعباوحرجا للغاية.
ماء زمزم:
بدأ إسماعيل يبكي من العطش. وتركته أمه وانطلقت تبحث عن ماء. راحت تمشيمسرعة حتى وصلت إلى جبل اسمه "الصفا". فصعدت إليه وراحت تبحث بهما عن بئرأو إنسان أو قافلة. لم يكن هناك شيء. ونزلت مسرعة من الصفا حتى إذا وصلتإلى الوادي راحت تسعى سعي الإنسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت إلى جبل"المروة"، فصعدت إليه ونظرت لترى أحدا لكنها لم تر أحدا. وعادت الأم إلىطفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه. وأسرعت إلى الصفا فوقفت عليه، وهرولتإلى المروة فنظرت من فوقه. وراحت تذهب وتجيء سبع مرات بين الجبلينالصغيرين. سبع مرات وهي تذهب وتعود. ولهذا يذهب الحجاج سبع مرات ويعودونبين الصفا والمروة إحياء لذكريات أمهم الأولى ونبيهم العظيم إسماعيل. عادتهاجر بعد المرة السابعة وهي مجهدة متعبة تلهث. وجلست بجوار ابنها الذي كانصوته قد بح من البكاء والعطش.
وفي هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله، وضرب إسماعيل بقدمه الأرض وهويبكي فانفجرت تحت قدمه بئر زمزم. وفار الماء من البئر. أنقذت حياتا الطفلوالأم. راحت الأم تغرف بيدها وهي تشكر الله. وشربت وسقت طفلها وبدأتالحياة تدب في المنطقة. صدق ظنها حين قالت: لن نضيع ما دام الله معنا.
وبدأت بعض القوافل تستقر في المنطقة. وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من الناس. وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان.
الأمر بذبح إسماعيل عليه السلام:
كبر إسماعيل.. وتعلق به قلب إبراهيم.. جاءه العقب على كبر فأحبه.. وابتلىالله تعالى إبراهيم بلاء عظيما بسبب هذا الحب. فقد رأى إبراهيم عليهالسلام في المنام أنه يذبح ابنه الوحيد إسماعيل. وإبراهيم يعمل أن رؤياالأنبياء وحي.
انظر كيف يختبر الله عباده. تأمل أي نوع من أنواع الاختبار. نحن أمام نبيقلبه أرحم قلب في الأرض. اتسع قلبه لحب الله وحب من خلق. جاءه ابن علىكبر.. وقد طعن هو في السن ولا أمل هناك في أن ينجب. ثم ها هو ذا يستسلمللنوم فيرى في المنام أنه يذبح ابنه وبكره ووحيده الذي ليس له غيره.
أي نوع من الصراع نشب في نفسه. يخطئ من يظن أن صراعا لم ينشأ قط. لا يكونبلاء مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع. نشب الصراع في نفس إبراهيم..صراع أثارته عاطفة الأبوة الحانية. لكن إبراهيم لم يسأل عن السبب وراء ذبحابنه. فليس إبراهيم من يسأل ربه عن أوامره.
فكر إبراهيم في ولده.. ماذا يقول عنه إذا أرقده على الأرض ليذبحه.. الأفضلأن يقول لولده ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحهقهرا. هذا أفضل.. انتهى الأمر وذهب إلى ولده (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّيأَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى). انظر إلىتلطفه في إبلاغ ولده، وترك الأمر لينظر فيه الابن بالطاعة.. إن الأمر مقضيفي نظر إبراهيم لأنه وحي من ربه.. فماذا يرى الابن الكريم في ذلك؟ أجابإسماعيل: هذا أمر يا أبي فبادر بتنفيذه (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُسَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). تأمل رد الابن.. إنسانيعرف أنه سيذبح فيمتثل للأمر الإلهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده(إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). هو الصبر على أي حال وعلى كلحال.. وربما استعذب الابن أن يموت ذبحا بأمر من الله.. ها هو ذا إبراهيميكتشف أن ابنه ينافسه في حب الله. لا نعرف أي مشاعر جاشت في نفس إبراهيمبعد استسلام ابنه الصابر.
ينقلنا الحق نقلة خاطفة فإذا إسماعيل راقد على الأرض، وجهه في الأرض رحمةبه كيلا يرى نفسه وهو يذبح. وإذا إبراهيم يرفع يده بالسكين.. وإذا أمرالله مطاع. (فَلَمَّا أَسْلَمَا) استخدم القرآن هذا التعبير.. (فَلَمَّاأَسْلَمَا) هذا هو الإسلام الحقيقي.. تعطي كل شيء، فلا يتبقى منك شيء.
عندئذ فقط.. وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيأ لإمضاء أمره.. نادىالله إبراهيم.. انتهى اختباره، وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم - وصار اليومعيدا لقوم لم يولدوا بعد، هم المسلمون. صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين.عيدا يذكرهم بمعنى الإسلام الحقيقي الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل.
ومضت قصة إبراهيم. ترك ولده إسماعيل وعاد يضرب في أرض الله داعيا إليه،خليلا له وحده. ومرت الأيام. كان إبراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقطرأسه في العراق وعبر الأردن وسكن في أرض كنعان في البادية. ولم يكنإبراهيم ينسى خلال دعوته إلى الله أن يسأل عن أخبار لوط مع قومه، وكان لوطأول من آمن به، وقد أثابه الله بأن بعثه نبيا إلى قوم من الفاجرين العصاة.
البشرى بإسحاق:
كان إبراهيم جالس لوحده. في هذه اللحظة، هبطت على الأرض أقدام ثلاثة منالملائكة: جبريل وإسرافيل وميكائيل. يتشكلون في صور بشرية من الجمالالخارق. ساروا صامتين. مهمتهم مزودجة. المرور على إبراهيم وتبشيره. ثمزيارة قوم لوط ووضع حد لجرائمهم.
سار الملائكة الثلاثة قليلا. ألقى أحدهم حصاة أمام إبراهيم. رفع إبراهيمرأسه.. تأمل وجوههم.. لا يعرف أحدا فيهم. بادروه بالتحية. قالوا: سلاما.قال: سلام.
نهض إبراهيم ورحب بهم. أدخلهم بيته وهو يظن أنهم ضيوف وغرباء. أجلسهم واطمأن أنهم قد اطمأنوا، ثم استأذن وخرج. راغ إلى أهله.
نهضت زوجته سارة حين دخل عليها. كانت عجوزا قد ابيض شعرها ولم يعد يتوهج بالشباب فيها غير وميض الإيمان الذي يطل من عينيها.
قال إبراهيم لزوجته: زارنا ثلاثة غرباء.
سألته: من يكونون؟
قال: لا أعرف أحدا فيهم. وجوه غريبة على المكان. لا ريب أنهم من مكانبعيد، غير أن ملابسهم لا تشي بالسفر الطويل. أي طعام جاهز لدينا؟
قالت: نصف شاة.
قال وهو يهم بالانصراف: نصف شاة.. اذبحي لهم عجلا سمينا. هم ضيوف وغرباء.ليست معهم دواب أو أحمال أو طعام. ربما كانوا جوعى وربما كانوا فقراء.
اختار إبراهيم عجلا سمينا وأمر بذبحه، فذكروا عليه اسم الله وذبحوه. وبدأشواء العجل على الحجارة الساخنة. وأعدت المائدة. ودعا إبراهيم ضيوفه إلىالطعام. أشار إبراهيم بيده أن يتفضلوا باسم الله، وبدأ هو يأكل ليشجعهم.كان إبراهيم كريما يعرف أن الله لا يتخلى عن الكرماء وربما لم يكن في بيتهغير هذا العجل، وضيوفه ثلاثة ونصف شاة يكفيهم ويزيد، غير أنه كان سيداعظيم الكرم. راح إبراهيم يأكل ثم استرق النظر إلى ضيوفه ليطمئن أنهميأكلون. لاحظ أن أحدا لا يمد يده إلى الطعام. قرب إليهم الطعام وقال: ألاتأكلون؟ عاد إلى طعامه ثم اختلس إليهم نظرة فوجدهم لا يأكلون.. رأى أيديهملا تصل إلى الطعام. عندئذ (أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً). في تقاليد الباديةالتي عاش فيها إبراهيم، كان معنى امتناع الضيوف عن الأكل أنهم يقصدون شرابصاحب البيت.
ولاحظ إبراهيم بينه وبين نفسه أكثر من ملاحظة تؤيد غرابة ضيوفه. لاحظ أنهمدخلوا عليه فجأة. لم يرهم إلا وهم عند رأسه. لم يكن معهم دواب تحملهم، لمتكن معهم أحمال. وجوههم غريبة تماما عليه. كانوا مسافرين وليس عليهم أثرلتراب السفر. ثم ها هو ذا يدعوهم إلى طعامه فيجلسون إلى المائدة ولايأكلون. ازداد خوف إبراهيم.
كان الملائكة يقرءون أفكاره التي تدور في نفسه، دون أن يشي بها وجهه. قالله أحد الملائكة: (لاَ تَخَفْ). رفع إبراهيم رأسه وقال بصدق عظيم وبراءة:اعترف إنني خائف. لقد دعوتكم إلى الطعام ورحبت بكم، ولكنكم لا تمدونأيديكم إليه.. هل تنوون بي شرا؟
ابتسم أحد الملائكة وقال: نحن لا نأكل يا إبراهيم.. نحن ملائكة الله.. وقد (أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)
ضحكت زوجة إبراهيم.. كانت قائمة تتابع الحوار بين زوجها وبينهم، فضحكت.
التفت إليها أحد الملائكة وبشرها بإسحاق.
صكت العجوز وجهها تعجبا:
قَالَت يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) (هود)
عاد أحد الملائكة يقول لها:
وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ
جاشت المشاعر في قلب إبراهيم وزوجته. شف جو الحجرة وانسحب خوف إبراهيمواحتل قلبه نوع من أنواع الفرح الغريب المختلط. كانت زوجته العاقر تقف هيالأخرى وهي ترتجف. إن بشارة الملائكة تهز روحها هزا عميقا. إنها عجوز عقيموزوجها شيخ كبير. كيف؟! كيف يمكن؟!
وسط هذا الجو الندي المضطرب تساءل إبراهيم:
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) (الحجر)
أكان يريد أن يسمع البشارة مرة أخرى؟ أكان يريد أن يطمئن قلبه ويسمع للمرةالثانية منة الله عليه؟ أكان ما بنفسه شعورا بشريا يريد أن يستوثق؟ ويهتزبالفرح مرتين بدلا من مرة واحدة؟ أكد له الملائكة أنهم بشروه بالحق.
قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) (الحجر)
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56) (الحجر)
لم يفهم الملائكة إحساسه البشري، فنوه عن أن يكون من القانطين، وأفهمهم أنه ليس قانطا.. إنما هو الفرح.
لم تكن البشرى شيئا بسيطا في حياة إبراهيم وزوجته. لم يكن لإبراهيم غيرولد واحد هو إسماعيل، تركه هناك بعيدا في الجزيرة العربية. ولم تكن زوجتهسارة قد أنجبت خلال عشرتها الطويلة لإبراهيم، وهي التي زوجته من جاريتهاهاجر. ومن هاجر جاء إسماعيل. أما سارة، فلم يكن لها ولد. وكان حنينها إلىالولد عظيما، لم يطفئ مرور الأيام من توهجه. ثم دخلت شيخوختها واحتضرحلمها ومات. كانت تقول: إنها مشيئة الله عز وجل.
هكذا أراد الله لها. وهكذا أراد لزوجها. ثم ها هي ذي في مغيب العمر تتلقىالبشارة. ستلد غلاما. ليس هذا فحسب، بشرتها الملائكة بأن ابنها سيكون لهولد تشهد مولده وتشهد حياته. لقد صبرت طويلا ثم يئست ثم نسيت. ثم يجيءجزاء الله مفاجأة تمحو هذا كله في لحظة.
فاضت دموعها وهي تقف. وأحس إبراهيم عليه الصلاة والسلام بإحساس محير. جاشتنفسه بمشاعر الرحمة والقرب، وعاد يحس بأنه إزاء نعمة لا يعرف كيف يوفيهاحقها من الشكر. وخرّ إبراهيم ساجدا على وجهه.
انتهى الأمر واستقرت البشرى في ذهنيهما معا. نهض إبراهيم من سجوده وقد ذهبعنه خوفه، واطمأنت حيرته، وغادره الروع، وسكنت قلبه البشرى التي حملوهاإليه. وتذكر أنهم أرسلوا إلى قوم لوط. ولوط ابن أخيه النازح معه من مسقطرأسه، والساكن على مقربة منه. وإبراهيم يعرف معنى إرسال الملائكة إلى لوطوقومه. هذا معناه وقوع عذاب مروع. وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودودة لاتجعله يطيق هلاك قوم في تسليم. ربما رجع قوم لوط وأقلعوا وأسلموا أجابوارسولهم.
وبدأ إبراهيم يجادل الملائكة في قوم لوط. حدثهم عن احتمال إيمانهم ورجوعهمعن طريق الفجور، وأفهمه الملائكة أن هؤلاء قوم مجرمون. وأن مهمتهم هيإرسال حجارة من طين مسومة من عند ربك للمسرفين. وعاد إبراهيم، بعد أن سدالملائكة باب هذا الحوار، عاد يحدثهم عن المؤمنين من قوم لوط. فقالتالملائكة: نحن أعلم بمن فيها. ثم أفهموه أن الأمر قد قضي. وإن مشيئة اللهتبارك وتعالى قد اقتضت نفاذ الأمر وهلاك قوم لوط. أفهموا إبراهيم أن عليهأن يعرض عن هذا الحوار. ليوفر حلمه ورحمته. لقد جاء أمر ربه. وتقرر عليهم(عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) عذاب لن يرده جدال إبراهيم. كانت كلمةالملائكة إيذانا بنهاية الجدال.. سكت إبراهيم. وتوجهت الملائكة لقوم لوطعليه السلام.
| |
|